صدرت حديثًا عن دار نينوى في دمشق الترجمة العربية لرواية ليل ونهار للكاتبة البريطانية الشهيرة فرجينيا وولف، بترجمة ديالا محمود، في 608 صفحات.
تعد هذه الرواية من بين الأعمال الأولى لوولف، إذ صدرت لأول مرة عام 1919، وتمثل مرحلة مهمة في تطور أسلوبها الأدبي قبل أن تتخذ لاحقًا نهجها التجريبي في الكتابة، كما في إلى المنارة والأمواج.
في هذه المراجعة، سنتناول أبعاد الرواية، مواضيعها الرئيسة، الأسلوب الأدبي، وأهمية هذه الترجمة الجديدة.
فرجينيا وولف كاتبة الحداثة وصوت التجديد
فرجينيا وولف (1882-1941) واحدة من أبرز الكاتبات الحداثيات في القرن العشرين، اشتهرت بأسلوبها التجريبي وقدرتها الفذة على استكشاف النفس البشرية عبر تيار الوعي والسرد المتشعب.
في رواياتها، كانت تطرح تساؤلات حول الزمن، الهوية، المرأة، والعلاقات الاجتماعية، وارتبطت بمدرسة “بلومزبري”، التي كانت تضم مفكرين وفنانين أحدثوا تحولًا فكريًا في بريطانيا.
تعد ليل ونهار من الروايات المبكرة التي تُظهر تأثر وولف بالرواية التقليدية الفيكتورية قبل أن تنطلق إلى أساليب أكثر تجريبية في أعمالها اللاحقة.
عن الرواية الحب، المرأة، والمجتمع
ليل ونهار تتناول قصة أربع شخصيات رئيسة تعيش في لندن في بدايات القرن العشرين:
كاثرين هيلبري: امرأة تنتمي إلى طبقة اجتماعية ميسورة، ممزقة بين رغبتها في تحقيق ذاتها وبين التوقعات التقليدية المفروضة عليها.
رالف دينهام: محامٍ طموح من طبقة متوسطة، يواجه صراعات بين مشاعره تجاه كاثرين وطموحاته الشخصية.
ماري داتشيت: ناشطة نسوية تناضل من أجل حقوق المرأة، تمثل تيارًا جديدًا يسعى لكسر القيود الاجتماعية.
ويليام رودني: شاعر محافظ يتعامل مع التقاليد بأسلوب تقليدي، ويمثل النقيض الفكري لماري.
الرواية تستكشف الحب والزواج ودور المرأة في المجتمع، حيث تسلط الضوء على حياة النساء في أوائل القرن العشرين عندما كنّ يكافحن بين الواجبات التقليدية والرغبة في الاستقلال.
بين التقليدية والحداثة بناء الرواية وأسلوبها
تتميز ليل ونهار بأسلوب أكثر تقليدية مقارنة بأعمال وولف اللاحقة. فبدلًا من تيار الوعي الذي ميّز رواياتها مثل السيدة دالواي، تعتمد هنا على السرد الكلاسيكي والحوار المطول بين الشخصيات، متأثرة بأسلوب الأدب الفيكتوري، خاصة روايات جين أوستن وجورج إليوت.
لكن على الرغم من هذا البناء التقليدي، فإن الرواية تحمل بصمات وولف المميزة في تحليلها العميق للعواطف البشرية وتعقيداتها، حيث تستكشف المشاعر الداخلية لشخصياتها بأسلوب حساس يلمس القارئ.
ثنائية الليل والنهار دلالات رمزية
العنوان نفسه يحمل أبعادًا رمزية متعددة: الليل يرمز إلى الشك والتردد والضياع الداخلي، بينما النهار يعكس العقلانية والوضوح والاختيارات الواعية.
هذا التناقض يظهر في حياة الشخصيات، حيث نجد كاثرين ممزقة بين عالمين، أحدهما يمثل التقاليد، والآخر يمثل الحرية والاستقلال.
كما أن صراع الشخصيات الأخرى بين العاطفة والمنطق، التقاليد والتجديد، يعزز هذه الثنائية التي تعكس واقع المجتمع البريطاني آنذاك.
النسوية والهوية وولف والمرأة في القرن العشرين
كانت فرجينيا وولف من أبرز الكاتبات اللواتي دافعن عن حقوق المرأة، خاصة في كتابها غرفة تخص المرء وحده. في ليل ونهار، نجد ماري داتشيت تجسد نموذج المرأة الجديدة التي تسعى للاستقلال المهني والاجتماعي، وتواجه النظرة الذكورية التقليدية.
وعلى الرغم من أن كاثرين ليست ناشطة نسوية مثل ماري، إلا أنها تكافح أيضًا لتحقق ذاتها خارج إطار الزواج التقليدي.
هذه الرؤية تعكس الجدل الاجتماعي الذي كان قائمًا في تلك الفترة حول دور المرأة، وهو جدل ما زال مستمرًا حتى اليوم، ما يجعل الرواية ذات صلة بالعصر الحديث.
الترجمة الجديدة ديالا محمود وتجديد وولف بالعربية
ترجمة ديالا محمود تفتح نافذة جديدة على هذه الرواية الكلاسيكية، حيث تقدم نصًا عربيًا سلسًا يحافظ على روح النص الأصلي.
التعامل مع أعمال فرجينيا وولف ليس سهلًا، نظرًا لتعقيد أفكارها واستخدامها اللغوي المتشعب، لكن هذه الترجمة تنجح في تقديم الرواية بأسلوب يحافظ على سلاستها وأصالتها.
كما أن صدور هذه الترجمة عن دار نينوى في دمشق يضيف بعدًا ثقافيًا مهمًا، حيث يسهم في إثراء المكتبة العربية بأعمال أدبية عالمية ذات قيمة فكرية عالية.
لماذا يجب قراءة ليل ونهار اليوم؟
على الرغم من أن ليل ونهار ليست من أكثر روايات وولف شهرة، إلا أنها تقدم رؤية فريدة لعالمها الأدبي، وتمنح القارئ فرصة لفهم تطور أسلوبها من التقليدي إلى الحداثي.
الرواية تقدم صورة دقيقة عن مجتمع متغير، حيث تتصارع القيم القديمة مع الأفكار الجديدة، ما يجعلها رواية ذات بعد إنساني عميق.
إضافةً إلى ذلك، فإن الترجمة العربية الجديدة توفر فرصة للقارئ العربي للتعرف على هذه الرواية بلغته الأم، مما يفتح المجال لمزيد من الحوار حول أفكار وولف وتأثيرها على الأدب النسوي والفكر الحداثي.
خاتمة بين الماضي والمستقبل
ليل ونهار ليست مجرد قصة حب، بل هي انعكاس لتحولات اجتماعية كبرى كانت تحدث في بريطانيا مطلع القرن العشرين.
إنها رحلة في عالم الشخصيات الممزقة بين الرغبة في التغيير والخضوع للتقاليد، وهي في الوقت ذاته شهادة على عبقرية فرجينيا وولف في فهم النفس البشرية.
ترجمة ديالا محمود تقدم هذه الرواية لجمهور جديد، وتعيد إحياء نص أدبي كلاسيكي بطريقة معاصرة. سواء كنت من محبي وولف أو قارئًا جديدًا لأعمالها، فإن ليل ونهار تمثل قراءة ضرورية لفهم جذور الحداثة الأدبية وتحولاتها.