رواية بريد الذكريات

مقدّمة السياق

“بريد الذكريات” إصدار جديد من منشورات تكوين في الكويت، لأرملة الفنانة والكاتبة والرسّامة الكولومبية الراحلة إيما رييس.

يُعدّ الكتاب أعمق من مجرد مجموعة رسائل؛ إنه كشف أدبي متأخر، نشر أول مرة في كولومبيا في عام 2012، بعد وفاة المؤلفة بعشر سنوات، ليُقدّم لنا مذكراتها ورسائلها الشخصية التي ظلّت مخفية أو شبه مخفية حتى ذلك التاريخ.

الترجمة العربية تتم من الإسبانية (ومما ورد، ربما أيضاً من البرتغالية) وهذه ميزة من الناحية النصيّة، لأنها تتيح نقل حساسيات أدبية لهجة اللغة الأصلية، لا سيّما عندما تتعلّق بالذاكرة الطفولية والصور البصرية والغربة الإحساسية.

محتوى الكتاب

الكتاب يتكوّن من رسائل كتبَتها إيما رييس إلى اثنين من أصدقائها المقرّبين، من بينهم غابرييل غارسيا ماركيز، وشخص آخر يُفترض أنه من أقرب المقربين لِها (ربما صديق أدبي أو شخص شخصية معنويّة). من هذه الرسائل تنبثق مذكّرات طفولتها:

  • طفولة في بوغوتا في أوضاع اجتماعية صعبة، فقر مع الأم والأخت، المعاناة المادية، وربما التنقّل أو الانتقال بين مساكن أو ظروف متبدّلة.
  • فترة في دير كاثوليكي، حيث قضت وقتًا معزولة أو شبه منعزلة، وهو ما يُبرز بعدًا من الشرود الداخلي، التشوّش بين الجماعة والعزلة، وبين الدين والتعليم المؤسَّس والمقدّس من جهة، والرغبة في الحرية من جهة أخرى.
  • هروبها في سن التاسعة عشرة، وهو الحد الفاصل الذي يبدو أنها تعتبره نواة البلوغ النفسي والمواجهات الحقيقية مع العالم الخارجي.

الرسائل ليست سردًا منظمًا زمنيًا فحسب، بل أيضاً عرضٌ للتفاصيل اليومية، الذكريات الحسّية — الروائح، الأصوات، الوجوه، الحزن، الصمت، اللحظات التي تُرهق الطفلة حين لا تكون بعد لديها القدرة الكاملة على التعبير، إلا أن التعبير ينبثق من شغف بالرسم، بالحلم، بالكتابة.

الأسلوب الفني

بريد الذكريات” – مراجعة شاملة

مقدّمة السياق
بريد الذكريات
  • اللغة والصورة البصرية: باعتبار أن إيما رييس هي فنانة تشكيلية، فإن النصوص تحمل رونقًا بصريًا قويًا؛ الصور التي تصفُ ما تراه الطفلة/الفتاة من منظر طبيعي، من ضوء، من لون — كل ذلك يدخل النص العربي عبر الترجمة المحترفة محمّلاً بإحساس الأصل، مع مراعاة أن الترجمة تحافظ على عيني الطفلة التي تراها كل شيء جديدًا أو مخيفًا أو مدهشًا.
  • النبرة البريئة والمركبة: هناك ثنائية متكرّرة في النص: بين البراءة من جهة، والمعرفة المبكرة من جهة أخرى؛ بين الألم من جهة، والأمل أو الجرأة على الكلام من جهة ثانية.
  • التأثير الشخصي/الحميمي: كون الرسائل موجهة لشخصيات معروفة ومقربة يجعل النص لا يبدو خطابًا عامًا بل نشيدًا شخصيًا، وهو ما يزيد التفاعل العاطفي لدى القارئ.
  • الغربة الداخلية: ليست غربة بلد بقدر ما هي شعور بالغربة في النفس، في المكان، في الزمن، في الحضور المنقوص. الطفلة التي تُهمشها الظروف، التي تُعرّف نفسها عبر غياب أو نقص أو انتظار، وإن كانت تملك أدوات للنّفاذ (الرسم، الكتابة، التصوير الذهني).

المواضيع والدلالات

  1. الذّكريات والهوية
    تتشكّل الهوية بين ما نُحمله من ماضٍ وما نعيش من حاضر، وتبرز الطفولة كنواة الأساس — الذكريات ليست مجرد ماضٍ، بل مواد تُشكّل الكون الداخلي للإنسان.
  2. الفن كفضاء للنجاة
    الفن (الرسم والكتابة) يظهر كمنفذ، كمساحة للتعبير حين تُختنق اللغة أو حين لا تكون الظروف ممهّدة. تلك “العين الطفلة” تراها الأشياء وتدفنها أو تحيّيها، حتى إن كانت الظروف قاسية.
  3. الصمت والكلام
    هناك شعور بالصمت الشديد، ليس فقط كغياب للكلام، بل كضيق في الكلام، كأن الكلمات تُختنَق إن لم تُقل كما يجب، أو أن المعنى الكامل لا تُسعه اللغة. الرسالة إذًا هي خليط من ما يُقال وما يُصمت عنه، من ما يُكتب وما يبقى في الذهن.
  4. الحرية والقيود
    الدير، البيئة الفقيرة، عزلة الطفولة، كلها تمثّل قيودًا، لكن الرحيل — سواء الهروب الفعلي أو الهروب بالقلب — تمثّل رغبة في الحرية، رغبةٌ في امتلاك الصوت، في استعادة الذات.

قيمة هذا الإصدار للمكتبة العربية

  • أولًا، يقدم كتابًا غير معهود شائعًا في آداب المراسلات: مذكرات من رسائل شخصية، مع شهرة فنية للكاتبة، ومع صلة مع ماركيز الذي يُعد اسمًا مهمًّا في الأدب العالمي.
  • ثانيًا، يفتح الباب أمام قراء العربية لاكتشاف صوت امرأة فنانة من أمريكا اللاتينية، ذا تجربة تشتبك بين الفقر والجمال، بين الألم والدعوة إلى الكلام.
  • ثالثًا، يلخّص تجربة إنسانية يمكن أن تُرْجمت إلى تجارب مشابهة في مجتمعات مختلفة: الطفولة المنسية، الحنين، الإبداع في أقسى الظروف، بذلك يصبح العمل عابراً للحدود الثقافية.

بعض التحفّظات والأسئلة التي قد يطرحها القارئ

  • كيف تنظّم الترجمة النص (هل تم ضم كل الرسائل؟ وهل هناك حذف أو اقتباس فقط)؟ ما مدى وفاء الترجمة بالمعنى الأصلي دون أن تُزيح الحسّ الشعري أو البصري؟
  • هل النص يحتوي على هوامش تدل على تاريخ الرسالة وبتاريخ كتابتها، أو مترجم أو مقدم يشرح السياق الكولومبي/التاريخي؟
  • ما مدى وضوح الشخصيات التي تُكتب إليهن الرسائل؟ خاصة غابرييل غارسيا ماركيز — ما مدى حضور رسائله أو ردوده؟ وهل الرسائل أحادية الاتجاه فقط؟
  • كيف عالج الناشر العربي الجانب الفني البصري في النص — هل هناك صور، لوحات، رسوم أو صور توضيحية، تصميم الغلاف؟ هذا مهم لأن الهوية البصرية للفنانة جزء من الشخصية الأدبية التي تصنع الكتاب.

تقييم نهائي

“بريد الذكريات” عمل مهم، يُعدّ من إصدارات أدب المراسلات التي تُعيد الكلمة الخاصة — التي نكتبها لشخص نحبّه، أو شخص تعبنا من التعبير أمامه — إلى مكانها الصحيح في الأدب. إيما رييس هنا تفتح لنا بابًا إلى طفولة مُهمّشة، لكنها تستعيدها بعيون لا تنسى، بقدر الألم بقدر الجمال.

إذا كنت قارئًا تبحث عن نص يفجّر الحواس، يُذكّرك بما ربما نسيتَه من طفولتِك أو من براءةِ بداياتِك، فهذا الكتاب مناسب جدًا. وأيضًا هو دعوة كي ننظر إلى الأشخاص العاديين الذين لم يكونوا مشهورين لكن رسائلهم وذكرياتهم تحمل قيمة ثقافية ورحمة إنسانية كبيرة.

بريد الذكريات” – مراجعة شاملة

مقدّمة السياق
بريد الذكريات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى