مدخل إلى كتاب العلم الجديد
يُعد كتاب العلم الجديد لجيوفاني باتيستا فيكو (1668-1744) علامة بارزة في تاريخ الفكر الإنساني، حيث يمثل رؤية ثورية لإعادة قراءة التاريخ والمجتمع والثقافة الإنسانية.
صدر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإيطالية القديمة عام 1725، ولم تتم ترجمته إلى اللغة العربية إلا مؤخرًا على يد المترجم التونسي أحمد الصمعي، الذي حازت ترجمته على جائزة الشيخ زايد للترجمة لعام 2024.
كتاب العلم الجديد ليس فقط محاولة لفهم التاريخ، بل هو أيضًا دعوة للتأمل في الأساطير والخرافات والشخصيات الخيالية باعتبارها وسيلة لفهم الحقيقة.
فيكو ينظر إلى التاريخ كأرشيف حي للتجربة البشرية منذ الطوفان وحتى عصره، ويتناول مختلف جوانب الحياة الإنسانية، من الميتافيزيقا إلى الأخلاق، ومن الاقتصاد إلى الفلك والجغرافيا، معتمدًا في ذلك على أدوات تحليلية مبتكرة مثل فقه اللغة وعلم الاشتقاق.
أهمية كتاب العلم الجديد وأفكاره المحورية
يتناول فيكو في كتابه أفكارًا ثورية تجاوزت عصره وأسست لعلوم إنسانية جديدة. ومن أبرز أفكاره:
قراءة التاريخ من خلال الأساطير
يرى فيكو أن الأساطير والخرافات ليست مجرد قصص خيالية، بل هي وسيلة الأقوام القديمة لفهم العالم والتعبير عن حقائقهم.
يدعو القارئ إلى التخلي عن النظرة الفلسفية المتعالية والغرور المعرفي لفهم هذه الحقائق كما رآها مبتكروها.
الأساطير، بحسب فيكو، تعكس طفولة العالم، ويجب الغوص فيها دون التأويلات الباطنية التي أفسدت معناها الأصلي.
العلاقة بين الخيال والعقل
يؤكد فيكو على أهمية الخيال في تشكيل المعرفة الإنسانية. يرفض الانفصال بين العقل والخيال الذي نادت به الفلسفة الديكارتية، مشددًا على أن الإنسان ليس كائنًا عقلانيًا فقط، بل هو أيضًا مبدع للقصائد والخرافات والأساطير التي تحمل في طياتها حقائق عميقة.
نقد المثالية الرياضية
ينتقد فيكو الفلاسفة الذين جعلوا الرياضيات النموذج الأمثل للعلم والمعرفة.
يدعو إلى تطوير علوم تهتم بالمؤسسات البشرية والسياسات والقوانين، ويؤكد أن صدق هذه العلوم لا يعتمد على القوانين الرياضية بل على التجربة الإنسانية.
التاريخ كفعل إنساني
يطرح فيكو نظرية محورية تقول إن الإنسان يفهم التاريخ لأنه هو الذي صنعه.
التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو تعبير عن التجربة الإنسانية المشتركة. يرى أن المعرفة الحقيقية تأتي من القدرة على صنع الأشياء وفهمها من خلال هذا الصنع.
العلوم الإنسانية والشعرية
يركز فيكو على “المعرفة الشعرية” التي تجمع بين الميتافيزيقا، والأخلاق، والاقتصاد، والفلك، والجغرافيا.
من خلال تحليل هذه المكونات باستخدام فقه اللغة وعلم الاشتقاق، يقدم “علمًا جديدًا” يصحح الأخطاء التي ارتكبها العلماء والمفكرون السابقون، ويؤسس منهجًا علميًا لفهم التاريخ.
قراءة جديدة للتاريخ
فيكو يعيد كتابة التاريخ من منظور إنساني شامل، حيث يرى أن كل مرحلة من مراحل التاريخ تعبر عن وعي جماعي مشترك ينعكس في الأساطير والعادات والتقاليد.
يعتقد أن الحقيقة التاريخية ليست مطلقة، بل هي نتاج الظروف الثقافية والاجتماعية التي عاشتها المجتمعات.
يشدد على أن هذه الحقيقة لا يمكن فهمها باستخدام الأدوات العقلانية وحدها، بل يجب أن نلجأ إلى الخيال والتحليل الرمزي لفهم الأساطير والخرافات التي شكلت وعي المجتمعات القديمة.
التحديات في تقديم الترجمة العربية
على الرغم من أهمية الترجمة التي قام بها أحمد الصمعي، فإن هناك بعض الملاحظات حول تقديم الكتاب للقارئ العربي:
المقدمة غياب السياق الفكري
اكتفى المترجم بسرد محتوى الكتاب دون أن يبرز أهميته التاريخية والفكرية.
لم تُوضح المقدمة كيف أن الكتاب أثّر في مفكرين لاحقين مثل هيغل وماركس، وكيف ساهم في تأسيس العلوم الإنسانية الحديثة.
افتقار المقدمة إلى الربط النقدي
لم تتناول المقدمة تحليلًا نقديًا لأفكار الكتاب أو تأثيره على الفكر العالمي.
كما أنها لم تقدم شروحات تفصيلية حول كيفية استقبال الكتاب في الغرب، مما يترك القارئ العربي في حيرة حول أهمية هذا العمل.
الحاجة إلى دراسة تحليلية غربية
كان من الأفضل تضمين دراسة تحليلية غربية في مقدمة الكتاب تسلط الضوء على الأفكار الرئيسية فيه، وتساعد القارئ العربي على فهم هذه الأفكار ضمن سياقها التاريخي والفلسفي.
لماذا يجب أن يُقرأ هذا الكتاب؟
يُعتبر العلم الجديد أكثر من مجرد كتاب فلسفي؛ إنه رحلة فكرية لاستكشاف أصول المعرفة الإنسانية وإعادة النظر في التاريخ والأساطير من زاوية جديدة.
القارئ العربي الذي يهتم بالفكر الإنساني سيجد في هذا الكتاب فرصة لفهم كيف تشكلت العلوم الإنسانية، وكيف يمكننا استعادة القيم الإنسانية الأصيلة التي تجسدها الأساطير والخرافات.
خاتمة كتاب خالد في الفكر الإنساني
يبقى كتاب العلم الجديد لجيوفاني باتيستا فيكو أحد أهم الأعمال التي أثرت في مسار العلوم الإنسانية والفلسفة.
ترجمة أحمد الصمعي تُعد خطوة مهمة نحو تقديم هذا العمل للقارئ العربي، لكنها تحتاج إلى تعزيزها بمقدمات وشروحات تساعد في فهم عمق وأهمية هذا النص.
إن قراءة هذا الكتاب ليست مجرد تجربة معرفية، بل هي دعوة للتأمل في تاريخ الإنسان وإبداعه وحقائقه التي سُطرت عبر الخيال والأساطير.
إنه كتاب يستحق أن يُقرأ بتأنٍ ووعي، ليظل خالدًا في ذاكرة الفكر الإنساني.