
في الثالث عشر من أبريل 2025، أسدل الستار على حياة أحد أعظم أعمدة الأدب العالمي، الروائي البيروفي الكبير ماريو بارغاس يوسا، الذي توفي عن عمر ناهز 89 عامًا، في العاصمة ليما، محاطًا بأفراد أسرته، بعد صراع طويل مع المرض.
برحيله، فقد العالم الروائي الذي طالما حفر اسمه في ذاكرة السرد العالمي، ليس فقط بحرفيته الأدبية، بل بمواقفه الفكرية والسياسية التي صارت جزءًا من تاريخه.
نشأة وتكوين ماريو بارغاس من جبال بيرو إلى القمة العالمية
وُلد ماريو خورخي بيدرو بارغاس يوسا في 28 مارس 1936، في مدينة أريكويبا البيروفية.
انفصل والداه حين كان رضيعًا، فعاش طفولته المبكرة مع والدته وجدّه في بوليفيا.
عند سن العاشرة، عاد إلى بيرو، وهناك التحق بأكاديمية “ليونثيو برادو” العسكرية في العاصمة ليما، والتي ستتحول لاحقًا إلى المسرح الخلفي لأول أعماله الأدبية المدوية “المدينة والكلاب”.
أكمل دراسته الجامعية في الأدب والقانون بجامعة سان ماركوس في ليما، ثم تابع دراسته العليا في جامعة كومبلوتنسي بمدريد، حيث بدأ نضجه الفكري وانخراطه في الحياة الثقافية الأوروبية.
بزوغ نجم أدبي عالمي سرد الواقع وتفكيك السلطة
كان عام 1963 بداية التحول الكبير في مسيرته، حين صدرت روايته الأولى “المدينة والكلاب”، التي هزّت المشهد الأدبي البيروفي وكادت أن تُمنع من التداول.
جاءت الرواية بمزيج جريء من النقد الاجتماعي والسرد الواقعي، وفتحت بابًا لرؤية جديدة في الأدب اللاتيني، تواصلت في أعماله اللاحقة مثل:
إقرأ أيضا : رواية فابيان الأخلاقي
- “البيت الأخضر” (1966): رواية معمارها السردي معقد، تتناول الفساد والهوية في أمريكا اللاتينية.
- “محادثة في الكاتدرائية” (1969): عمل تأملي ضخم، يعتبره النقاد من أرقى ما كُتب عن الاستبداد.
- “حرب نهاية العالم” (1981): ملحمة فلسفية عن الصراع الديني والسياسي في البرازيل.
- “من قتل بالومينو موليرو؟” (1986) و”حفلة التيس” (2000): روايات تغوص في دهاليز القمع العسكري والديكتاتوريات.
- “الثناء على زوجة الأب” و”دفاتر دون ريغوبيرتو”: روايات تستكشف المساحة الحسية في الإنسان وتعيد تعريف الجسد والحرية.
لم يكن يوسا مجرد راوٍ للأحداث، بل مفككًا لأنظمة السلطة والهيمنة، وناقدًا صريحًا لكل أشكال القهر السياسي والديني والاجتماعي.
نوبل الأدب 2010 تتويج لمسيرة تمرد وإبداع
في عام 2010، حصد يوسا جائزة نوبل للآداب، تكريمًا “لخرائطه الأدبية لهياكل السلطة وصوره القوية لمقاومة الفرد”، حسب ما جاء في بيان الأكاديمية السويدية.
اعتُبر ذلك التتويج تأكيدًا لما ظل النقاد يرددونه لعقود: أن يوسا ليس مجرد كاتب روايات، بل صوت فكري يشتبك مع الواقع، ويعيد ترتيبه عبر الكلمة.
بين السياسة والفكر المرشح الرئاسي والمفكر الليبرالي
لم يكتف يوسا بدوره كأديب، بل خاض غمار السياسة بجرأة، فترشح لرئاسة بيرو في انتخابات 1990، التي خسرها لصالح ألبرتو فوجيموري. كانت حملته الليبرالية دفاعًا عن الديمقراطية والحرية، ورفضًا للديكتاتورية.
رغم خسارته، ظل يوسا صوتًا حاضرًا في المشهد السياسي اللاتيني والعالمي، يكتب في الصحف الكبرى ويشارك في النقاشات الفكرية.
عرف بمواقفه الرافضة للأنظمة الاستبدادية في كوبا وفنزويلا، وانتقاده الحاد لليسار الشعبوي، مما جعله في مرمى الجدل الدائم، لكنه ظل وفيًا لقناعاته.
كتب ومقالات ماريو بارغاس إرث معرفي حي
أصدر يوسا أكثر من 20 رواية، إلى جانب كتب نقدية وفكرية ومجموعات مقالية أبرزها:
- “الواقع والخيال”: تأملات في دور الأدب ومكانة الكاتب.
- “اللغة والمقاومة”: حول علاقة اللغة بالتحرر.
- “حلم السلتين”: عن جذور الإبداع والكتابة.
- “المجتمع الشفاف”: مقالات عن الحرية والدين والسياسة.
كما كتب عن كبار الأدباء مثل فوكو، أورويل، كامو، وسبينوزا، مشكّلًا بذلك مرجعًا نقديًا نادرًا.
مرض ماريو بارغاس والوداع الأخير
في السنوات الأخيرة، ابتعد يوسا عن الأضواء تدريجيًا، حيث أعلن في ديسمبر 2023 عن تقاعده من الحياة العامة، بعد معاناة مع مرض عضال لم يفصح عنه.
طلب من أسرته ألا تُقام له جنازة عامة، وأوصى بأن يُحرق جثمانه وتُنثر رماده في أماكن أحبها في بيرو وإسبانيا، بين جبال الأنديز وسواحل البحر الأبيض المتوسط.
ردود فعل أدبية وسياسية عالمية
نعت دول العالم رحيل يوسا بكلمات مؤثرة:
- قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: “لقد فقد العالم أحد أعظم رواته… كان مهندسًا للأمل والحرية.”
- وكتب الكاتب الإسباني خافيير مارياس: “وداعًا لآخر عظماء الواقعية السحرية، وأول من جعل السرد ثورة.”
- أما الروائي التشيلي ألبرتو فوينتيس، فقال: “كان ماريو يكتب كما لو أن الحياة معلقة على كل جملة.”
وأعلنت حكومات بيرو وإسبانيا الحداد، وأقيمت معارض كبرى في باريس ومدريد وليما لتكريم إرثه الأدبي.
إرث يوسا نار الأدب التي لا تنطفئ
بوفاته، يُسدل الستار على جيل أدبي ذهبي عرفته أمريكا اللاتينية، مع أسماء مثل ماركيز، بولانيو، وإيزابيل الليندي. لكن يوسا يظل حاضرًا، ليس فقط في رفوف المكتبات، بل في الضمير الأدبي العالمي.
علمنا أن الأدب ليس ترفًا، بل مقاومة، وأن الكلمة الصادقة قد تكون أكثر فتكًا من الرصاصة.

مصادر وروابط للمزيد
- موقع نوبل الرسمي: https://www.nobelprize.org/prizes/literature/2010/vargas_llosa/facts
- El País الإسباني: https://elpais.com/cultura/2025-04-15/mario-vargas-llosa-un-hombre-hecho-de-literatura.html
- رويترز: https://www.reuters.com/world/americas/peru-mourns-death-nobel-laureate-writer-vargas-llosa-2025-04-14
- ويكيبيديا: https://en.wikipedia.org/wiki/Mario_Vargas_Llosa