
في زمن يلهث فيه أغلب السياسيين وراء البذخ والسلطة، ويرتفع جدار الفصل بينهم وبين شعوبهم إلى عنان السماء، رحل أمس بصمت رجل لم يعش كغيره من الرؤساء، ولم يحكم كأقرانه من الساسة: خوسيه “بيبي” موخيكا، الرئيس السابق لدولة الأوروغواي، بعد صراع مرير مع سرطان المريء.
لكن رحيله جسدًا، لم يمنع صدى حياته من أن يتردد في العالم كلّه، كأيقونة أخلاقية نادرة في عالم السياسة الحديثة.
رئيس بلا قصور.. ولا مواكب
موخيكا لم يكن فقط رئيسًا لدولة، بل كان حالة إنسانية وسياسية فريدة، قد لا تتكرر.
حكم بلده بين 2010 و2015، لكنه رفض طوال تلك السنوات أن ينتقل إلى القصر الرئاسي، مفضلًا العيش في مزرعته الصغيرة المتواضعة برفقة زوجته وكلبه وثلاثة عمال.
لم يصطحب موكبًا رئاسيًا، لم يرتدِ بذلات فاخرة، بل بقي متمسكًا بسيارته العتيقة، فولكس فاجن “الخنفساء” موديل 1987. السيارة التي أصبحت رمزًا لحياة متقشفة اختارها بنفسه عن قناعة، لا عن ضيق.
لماذا نحب موخيكا؟
حب الناس لموخيكا لم ينبع من عاطفة سطحية، بل من شعور داخلي بالاحترام لرجل حمل السلطة دون أن تتسلل إليه عدواها. رجل تحدّى ثقافة الاستعراض التي تطغى على كثير من زعماء العالم، لا سيما في بلدان “العالم الثالث”، حيث تتحول مناصب السلطة إلى مناسبة للتفاخر، ومشاريع الحكم إلى صفقات.
أحببناه لأنه لم يخن القيم التي بشّر بها في شبابه الثوري، بل ظل وفيًا لها حتى حين صار على قمة الهرم السياسي. أحببناه لأنه لم يتورط في فخاخ المال والسلطة، بل ظل نظيف اليد، نظيف السيرة، حتى أن تاريخه خالٍ من أية تهمة فساد أو استغلال للنفوذ.
من التمرد المسلح إلى دولة ديمقراطية
ليس من السهل اختزال تجربة موخيكا في عنوان واحد، فهو الثائر السابق وعضو حركة “التوباماروس” التي خاضت حرب عصابات ضد الحكم العسكري في الأوروغواي خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ودفع ثمن ذلك سجنًا دام 14 عامًا في ظروف قاسية.
كان خلالها يتعرض للتعذيب والعزلة، لكنه لم يخرج حاقدًا، بل خرج بحكمة تجعله يرى أن “الحياة أغلى من أن نُضيعها في الكراهية”.
ما يميز موخيكا أنه لم يقع في فخ الصورة النمطية للثائر الذي يتحول إلى طاغية بمجرد أن يتذوق طعم السلطة. على العكس، حين تولى الرئاسة، حرص على ترسيخ الديمقراطية، واحترام المؤسسات، وعدم المساس بحرية الصحافة، أو حقوق المعارضة.
لم يسعَ إلى تعديل الدستور لتمديد حكمه، ولم يُشكك في نتائج الانتخابات، بل سلّم السلطة طوعًا، كما يليق بمن يؤمن بالديمقراطية لا كشعار، بل كممارسة وسلوك يومي.
بين الواقعية والأسطورة
يُخطئ من ينظر إلى موخيكا كظاهرة خارقة أو استثنائية، أو كما يروّج البعض بأنه جاء من خارج النظام السياسي إلى كرسي الحكم بفعل مصادفات.
الحقيقة أن الرجل كان ابن الطبقة الوسطى في العاصمة مونتيفيديو، شغوفًا بالسياسة والكتب منذ صغره. وبعد خروجه من السجن، ترشح للبرلمان، ثم شغل منصب وزير الزراعة في 2005، إلى أن وصل للرئاسة عام 2010.
لم يكن من خارج المنظومة، بل من صميمها، لكنه اختار أن يمارسها بطريقة مغايرة.
امتلك فلسفة مختلفة عن الحكم، تقوم على المسؤولية الأخلاقية لا الاستعلاء الطبقي، وعلى التقشف لا التبذير، وعلى الصدق مع النفس والشعب.
لم يتعامل مع بلده كمزرعة خاصة، ولم يرَ في ثرواته وسيلة لبناء القصور أو امتلاك الطائرات الفاخرة، بل رأى فيها أمانة يجب أن تُحفظ وتصرف في وجوهها الحقيقية: التعليم، الصحة، العدالة الاجتماعية.
درس لأوطاننا العربية
في بلادنا العربية، اعتدنا أن نرى الرؤساء يراكمون الثروات، ويحيطون أنفسهم بهالة من التقديس، ويمارسون الحكم وكأنه ملكية شخصية. بينما كان موخيكا يعيش في بيت عادي، ويتبرع بأغلب راتبه لمساعدة الفقراء، ويؤكد دائمًا أن الزهد ليس بطولة، بل الطبيعي أن يعيش المسؤول حياة تشبه حياة الناس الذين يمثلهم.
أين نحن من تلك المعايير؟ رؤساء في بلادنا يطاردون الرفاهية باسم “الهيبة”، ويبددون الأموال العامة على مظاهر لا تسمن ولا تغني من جوع، في وقت يتضور فيه الملايين جوعًا.
في حين أن رئيسًا لدولة مثل الأوروغواي، بعدد سكان لا يتجاوز 3.4 مليون نسمة، قدّم نموذجًا في الحكم النزيه والتواضع والكرامة.
حتى في الموت.. كان عظيمًا
رحل بيبي موخيكا عن 89 عامًا، لكنه ترك ما هو أثمن من الميراث المادي: ترك نموذجًا أخلاقيًا وإنسانيًا وسياسيًا نادرًا. نموذج يُثبت أن السلطة ليست بالضرورة طريقًا إلى الفساد، وأن الزهد ليس ضعفًا، بل شجاعة نفسية.
كان يرفض أن يُلقب بـ”أفقر رئيس في العالم”، لأنه يرى أن الفقر الحقيقي هو الذي يصيب القلوب، ويحوّل البشر إلى جشعين لا يكتفون. أما من يرضى بالقليل، ويعيش حياة بسيطة بلا تكلف، فهذا ليس فقيرًا، بل غنيّ النفس.
الختام
وداعًا يا بيبي. كنت صادقًا حين كذّبتَ أسطورة “السلطة تُفسد”، وكنت قويًا حين لم تضعف أمام إغراء المال والمناصب. كنت كبيرًا دون أن تتعالى، وعظيمًا دون أن تتفاخر، وزاهدًا دون أن تتصنع.
وداعًا، أيها الرئيس الذي لم يشيّد قصرًا، ولم يغيّر سيارته “الخنفساء” حتى آخر يوم من حياته.. وداعًا، أيها الإنسان النبيل، الذي برهنت حياته على أن الأخلاق والسياسة لا يجب أن يكونا على طرفي نقيض.
