رواية ما إذا كان هذا إنسانًا

صدرت حديثًا عن “منشورات المتوسط” في إيطاليا، الترجمة العربية للرواية الشهيرة “ما إذا كان هذا إنسانًا” للكاتب الإيطالي بريمو ليفي، بترجمة أنجزها باقتدار المترجم كاصد محمد.

يمثل هذا الإصدار لحظة مفصلية في إدخال الأدب الشهودي المرتبط بالهولوكوست إلى الوعي القرائي العربي، لا بوصفه سردًا تاريخيًا فحسب، بل بوصفه شهادة إنسانية وأدبية من طراز رفيع.

كتاب لماذا مانزال فاشيين

كاتب رواية ما إذا كان هذا إنسانًا

بريمو ليفي، كيميائي يهودي من مدينة تورينو، اعتُقل على يد الفاشيين الإيطاليين عام 1943 بسبب انضمامه إلى صفوف المقاومة.

لم يكن يعرف حينها أن مسار حياته سيتغير إلى الأبد. نُقل إلى معسكر الاعتقال النازي في أوشفيتز، وهناك اختبر تجربة إنسانية متطرفة دفعته إلى إعادة النظر في معنى الإنسانية والكرامة، تلك الأسئلة التي ستلازمه وتلازم نصه إلى النهاية.

الرواية

لكتاب الذي بين أيدينا ليس مجرد سرد توثيقي لحياة في المعسكر، بل هو محاولة فلسفية عميقة للإجابة على سؤال جوهري: هل يبقى الإنسان إنسانًا في ظروف تُسلب فيها كل مظاهر الكرامة؟ من هذا السؤال اشتقّ ليفي عنوان روايته، الذي يبدو استفهاميًا في ظاهره، لكنه تراجيدي في جوهره.الرواية

اعتمد ليفي في أسلوبه على البساطة والوضوح، ولكنها بساطة خادعة.

خلف كل جملة يكمن قدر هائل من المعاناة والتمزق الداخلي. يبدأ الرواية بنص شعري مؤثر يخاطب فيه القارئ مباشرة، وكأنه يطالبه بأن لا ينسى، وأن يروي الحكاية كلما سنحت الفرصة:

“أنتم الذين تعيشون آمنين
في بيوتكم الدافئة
أنتم الذين تجدون الطعام الساخن
والوجوه الودودة كل مساء
فكّروا فينا…”

هذه القصيدة-العتبة هي بوابة الدخول إلى الجحيم البشري الذي عاشه الكاتب.

يتنقل السرد بين تفاصيل العمل الشاق، والبرد القارس، والمجاعات اليومية، والانهيارات النفسية المتتالية، مع نظرات فلسفية حول كيف ينهار الإنسان تحت وطأة فقدان المعنى.

يصف كيف تحوّل السجناء إلى أرقام، وكيف يُنتزع عنهم اسمهم وهويتهم وكل ما يجعل منهم كائنًا بشريًا.

ترجمة رواية ما إذا كان هذا إنسانًا

أما عن الترجمة العربية التي قدّمها كاصد محمد، فهي عمل جدير بالاهتمام.

حافظ المترجم على صوت ليفي الداخلي دون أن يُسقط عنه خصوصيته الثقافية واللغوية، فجاءت الترجمة أمينة وجمالية في آن.

الأمانة لا تعني الجمود، بل وفّق المترجم بين دقة الترجمة وسلاسة اللغة العربية، مع احترام دلالات النص الأصلية.

النقاد العرب الذين اطلعوا على النسخة المترجمة، أشادوا بالعمل، واعتبروه من الإصدارات الثقافية الضرورية في العالم العربي.

فغياب أدب الهولوكوست في المكتبة العربية، وخصوصًا ما كُتب بأقلام من عايشوا تلك التجربة، جعل من هذا العمل محطة محورية في الحوار مع الذاكرة الأوروبية. بل إن هناك من ذهب إلى أن هذا النص يشكّل مرآة تُظهر كيف يمكن للعنف المنهجي أن يجرّد الإنسان من معناه.

كتب الصحف العالمية عن ما إذا كان هذا إنسانًا

على مستوى النقد العالمي، لم يلقَ هذا العمل مجرد الاحتفاء، بل تحوّل إلى مرجع أدبي وفلسفي في تحليل مفهوم الشر. تقول الكاتبة الأمريكية سيلفيا ناب عن الرواية:

“ليفي لا يكتب ليُثير الشفقة. إنه يكتب ليُذكّرنا بأن الإنسان قادر على كل شيء: العظمة، والانحطاط، والنجاة، والخيانة.”

وقد كتبت صحيفة The Guardian البريطانية:

“ما إذا كان هذا إنسانًا” ليس فقط من أعظم شهادات القرن العشرين، بل هو عمل أدبي يفوق كونه وثيقة، لأنه ينقلك إلى داخل المعسكر، لا كمتفرج، بل ككائن يُختبر.”

وأدرجته The New York Times ضمن قائمتها لأهم 10 كتب غير روائية في القرن العشرين.

ومن المواقع المتخصصة بأدب السجون والهولوكوست، يبرز موقع Centro Internazionale di Studi Primo Levi الذي يضم نسخًا من النص بأكثر من عشرين لغة، ويمكن للقارئ الاطلاع على النسخة السواحيلية المجانية هنا:
https://www.primolevi.it/it/nuova-traduzione-swahili-se-questo-uomo-disponibile-liberamente-scaricabile-sito-centro

كما نشر موقع European Journal of Jewish Studies

دراسة حول التحديات اللغوية في ترجمة ليفي، ومفاتيح فهم أسلوبه المركّب رغم بساطته. يمكن الرجوع إليها هنا:
https://euppublishing.com/doi/abs/10.3366/tal.2012.0064

دار النشر

دار النشر “منشورات المتوسط” أثبتت، من خلال هذا العمل، التزامها بالانفتاح على الأدب العالمي الجاد والهادف، وتقديم ترجمات ترتقي بذائقة القارئ العربي.

فالرواية لا تفتح جرحًا، بل تُشعل سؤالًا: كيف نحافظ على إنسانيتنا في عالم لا يتردد في سحق الإنسان باسم العقيدة أو العرق أو السلطة؟

ختاما

إن ما إذا كان هذا إنسانًا ليست فقط شهادة أدبية، بل هي إنذار أخلاقي دائم.

إنها صرخة لا تنتهي، قادمة من أعماق التاريخ، تُذكّرنا بما حدث، وتحذرنا من تكراره. في زمن يتصاعد فيه خطاب الكراهية والعنصرية مجددًا، يبدو هذا الكتاب أكثر راهنية من أي وقت مضى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى