كتاب أنا هو الآخر حين تتحول الاستعارة إلى سرّ من أسرار الوعي الإنساني

صدر حديثًا عن منشورات وسم الكتاب الجديد للكاتب الأميركي جيمس غيري James Geary بعنوان: “أنا هو الآخر: أسرار الاستعارة اللغوية وكيف تشكّل رؤيتنا للعالم الذي نعيشه”، في عمل ضخم من 440 صفحة يمزج بين الفلسفة واللغة والعلوم الإنسانية، ويعيد للقارئ العربي التفكير في دور اللغة الخفي في تشكيل الوعي البشري.
الاستعارة ليست ترفًا بلاغيًا
على عكس ما قد يظنه الكثيرون، ينطلق غيري من أطروحة ثورية مفادها: الاستعارة هي أساس التفكير البشري. فالإنسان لا يفكر مباشرة بالواقع المجرّد، بل يحوله دائمًا إلى صور واستعارات.
حين نصف “الوقت بأنه مال”، أو “الحياة بأنها رحلة”، أو “الأفكار بأنها بذور”، نحن في الحقيقة نضع إطارًا يوجّه فهمنا وتصرفاتنا.
الاستعارة – وفق رؤية الكتاب – ليست مجرد حيلة أسلوبية أو زخرف لغوي، بل عدسة معرفية نصوغ من خلالها رؤيتنا للوجود.
اللغة والفكر: علاقة جدلية

يستعرض الكتاب كيف أن الاستعارة تشكّل محورًا مركزيًا في الفلسفة منذ أرسطو، لكنها مع الحداثة اتخذت أبعادًا أوسع، خاصة في الفلسفات المعاصرة وعلم اللسانيات الإدراكي.
غيري يقود القارئ إلى إدراك أن الفكر ذاته استعاري، وأننا نفكر بالصور قبل أن نفكر بالمفاهيم المجرّدة.
الاستعارة في مجالات الحياة
1. في السياسة:
يكشف الكتاب كيف توجّه الاستعارات الخطاب السياسي، فتجعلنا نرى الدولة كـ”أسرة” والحاكم كـ”أب”، أو نصف الاقتصاد بأنه “جسد” يحتاج إلى “علاج”. هذه الصور ليست بريئة، بل تحدّد السياسات والقرارات.
2. في العلوم:
حتى العلماء لا يفكرون خارج الاستعارة؛ الذرة توصف بـ”النظام الشمسي المصغّر”، والجينات كـ”شيفرة”، والدماغ كـ”حاسوب”. هذه التشبيهات ليست توصيفات بريئة بل هي أدوات معرفية تحدّد اتجاه البحث العلمي نفسه.
3. في الهوية الفردية:
حين نقول “أنا محطّم” أو “أنا في قمة السعادة”، نحن نستخدم استعارات لتوصيف حالات نفسية معقدة. الهوية ذاتها تُبنى من استعارات نستعيرها من المجتمع والثقافة.
4. في العلاقات الإنسانية:
الحب يوصف بأنه “رحلة”، أو بأنه “حرب”، ولكل استعارة تبعاتها في كيفية عيش التجربة: هل نتعامل مع الحب كمغامرة، أم كساحة صراع؟
رحلة فكرية بأسلوب أدبي
يمتاز أسلوب جيمس غيري بالجمع بين العمق الفلسفي والسهولة السردية، فهو لا يقدّم نظريات جافة، بل يمزجها بالأمثلة اليومية، والنصوص الأدبية، والشواهد الثقافية، ليجعل القارئ يعيش تجربة معرفية ممتعة.
إضافة نوعية للمكتبة العربية
إصدار منشورات وسم لهذا الكتاب يعكس اهتمامها بفتح آفاق جديدة أمام القارئ العربي، عبر تقديم نصوص فكرية تُعنى بالإنسان وعلاقته باللغة والفكر. فالكتاب لا يخاطب المختصين فقط، بل كل قارئ يتساءل: كيف نصوغ العالم بالكلمات، وكيف تصوغ الكلمات عالمنا؟
الخلاصة: من يصنع من؟
ينتهي الكتاب بطرح سؤال وجودي يظل مفتوحًا: هل نصنع الاستعارات لنفهم بها العالم، أم أن الاستعارات هي التي تصنعنا وتحدّد حدود وعينا؟
هذا السؤال يترك القارئ أمام تأمل طويل، يجعل من الكتاب أكثر من عمل لغوي – إنه دعوة فلسفية لإعادة اكتشاف الإنسان عبر لغته.
بهذا الإصدار، تواصل منشورات وسم تقديم أعمال ثقافية نوعية، وتثبت أن الكتاب الجيد لا يقدّم إجابات جاهزة، بل يفتح آفاقًا أوسع للأسئلة والبحث.
