مراجعة أدبية صحفية لرواية بابل لا مفر من العنف” بقلم ريبيكا إف. كوانج – ترجمة داليا لويس

صدر مؤخرًا عن مكتبة جرير النسخة العربية من الرواية العالمية Babel: Or the Necessity of Violence: An Arcane History of the Oxford Translators’ Revolution، التي كتبتها الروائية الأمريكية من أصل صيني ريبيكا إف. كوانج، وهي كاتبة صاعدة أثبتت نفسها بسرعة في مشهد الأدب العالمي، بعد نجاح ثلاثيتها الشهيرة “حرب الخشخاش” (The Poppy War). وقد ترجمتها إلى العربية المترجمة داليا لويس باقتدار ملحوظ، ينقل عمق النص وأبعاده التاريخية والفكرية دون أن يخونه أو يختزله.

1. الترجمة والخيانة: قلب الرواية

تحمل الرواية عنوانًا فرعيًا عميق الدلالة: “لا مفر من العنف”، وهو ما يعكس بجلاء الإشكالية المركزية التي تناقشها الرواية، ألا وهي العلاقة المعقدة بين الترجمة كفعل ثقافي وأدبي، والسلطة كأداة للهيمنة والاستعمار.

في سطورها الأولى، تفتح الرواية سؤالًا جريئًا:

“الترجمة، مَهما بَلغت من الإتقان، صورة من صور الخيانة!”
وهذا ليس مجرد تلاعب لغوي أو مقولة مأثورة، بل هو لبّ الرواية: كيف يمكن لأداة مثل الترجمة، التي يُفترض بها أن تبني جسور الفهم، أن تتحول إلى أداة للسيطرة والنهب الثقافي؟

2. أوكسفورد 1836: سحر المعرفة وحدوده

تدور أحداث الرواية في مدينة أوكسفورد عام 1836، في زمن الإمبراطورية البريطانية حين بلغت أوجها.

وتحديدًا في برج بابل التخيلي، وهو مركز أكاديمي سري متخيل يقع في قلب أوكسفورد، ويُعد بمثابة معهد للترجمة السحرية.

مراجعة أدبية صحفية لرواية بابل لا مفر من العنف" بقلم ريبيكا إف. كوانج – ترجمة داليا لويس

في هذا البرج، تُستخرج طاقة سحرية عبر أزواج من الكلمات بلغات مختلفة، تحمل في طيّاتها قوى سحرية يمكن استخدامها لتحريك عجلة الإمبراطورية: تقوية الجيوش، تسهيل النقل، تعزيز الصناعة، وكل ذلك باستخدام كلمات “مترجمة”.

الرواية هنا تلعب بذكاء على خيوط التاريخ والخيال، حيث تُحوّل الترجمة إلى مصدر قوة فيزيائية، وتضع اللغة في مركز الصراع بين الأمم.

3. روبن: من الابن المتبنى إلى الثائر الصامت

تتمحور الرواية حول روبن سويفت، يتيم صيني يتم إنقاذه من وباء الكوليرا في كانتون (غوانغتشو) ويُؤخذ إلى بريطانيا على يد أكاديمي غامض، ليُربى في كنف الثقافة الإنجليزية ويُعد للالتحاق ببرج بابل.

روبن يعيش تمزقًا وجوديًا دائمًا:

  • هو صيني في جلد إنجليزي.
  • طالب يسعى للمعرفة لكنه يدرك أن ما يتعلمه يُستخدم لقهر أبناء جلدته.
  • عاشق للغة والترجمة، لكنه يكتشف أنها تُستخدم لفرض الهيمنة الثقافية والسياسية.

يتحول روبن من طالب متفوق في المعهد إلى صوت ثوري يرفض أن يكون مجرد أداة في خدمة إمبراطورية استغلالية.

ومع تقدُّم الأحداث، تتحوّل بابل من برج معرفي إلى سجن فكري وجغرافي لا مفر منه، في مفارقة رمزية قوية.

4. الرواية كأطروحة ما بعد كولونيالية

لا تخفي الرواية انتماءها إلى التيار ما بعد الاستعماري (Postcolonial Thought)، فهي تطرح نقدًا صريحًا لعلاقة الغرب بلغات وثقافات الشعوب المستعمَرة. تسائل الكاتبة بأسلوب روائي:

  • كيف تُسخّر المعرفة لخدمة السيطرة؟
  • هل يمكن للترجمة أن تكون عملاً تحرريًا بدلًا من أن تكون وسيلة للهيمنة؟
  • ما حدود التعايش بين الثقافات حين تكون واحدة مهيمنة والأخرى مقموعة؟

وهنا، تستدعي الرواية بقوة أفكار إدوارد سعيد حول الاستشراق، وغاياتري سبيفاك في مقالها الشهير “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟”.

5. أسلوب كوانج: سحر اللغة والتاريخ

تمتاز كتابة ريبيكا إف. كوانج بجمعها بين الرصانة الأكاديمية والخيال الأدبي. فهي تقدم سردًا عميقًا ومليئًا بالمعلومات عن اللغات، وأصول الكلمات، والتاريخ الاستعماري البريطاني، دون أن تفقد الإيقاع الروائي الممتع.

الرواية مليئة بالحواشي الجانبية، التي تضيف عمقًا للنص وتمنحه طابعًا موسوعيًا دون أن تكون ثقيلة.

تُشبه الرواية في بنائها الأعمال الأدبية الضخمة مثل هاري بوتر أو His Dark Materials لفيليب بولمان، ولكن بروح ناقدة للنظام الذي أنتج أوكسفورد نفسها.

6. ترجمة داليا لويس: انسيابية تُحاكي النص الأصلي

قدّمت المترجمة داليا لويس نصًا سلسًا وثريًا في الوقت ذاته، حافظ على نَفَس الرواية الطويل واللغوي والفلسفي.

لم تقع في فخ التبسيط، ولم تتهرب من التعابير الفكرية العميقة، كما أن قدرتها على نقل الطابع الساخر حينًا والساخط أحيانًا كانت لافتة.

7. رسالة الرواية: لا حياد في المعرفة

الرواية في جوهرها تطرح سؤالًا سياسيًا:

هل يمكن للعلم أن يكون محايدًا؟
وهل للمعرفة وجه إنساني عندما تُستخدم كأداة للاستغلال؟

وبينما تقودنا الحكاية إلى ذروة تمرد الطلاب على برج بابل، نكتشف أن الثمن الذي يدفعه الأحرار غالبًا ما يكون دماءهم. فالعنف، كما تقول الرواية، “قد يكون هو اللغة الوحيدة التي تفهمها الإمبراطورية”.

بابل: لا مفر من العنف ليست مجرد رواية خيالية تدور في الماضي. إنها مرآة لزماننا المعاصر، حيث ما زال سؤال “من يمتلك اللغة؟” و”من يتحكم في السرد؟” حيًا ومؤلمًا. إنها رواية عن القوة، والمقاومة، والهويات المتصدعة، في عالم ما زال يعاني من آثار الاستعمار، حتى وإن غيّر أزياءه.

ينصح بها كل من يهتم بالأدب السياسي، والنقد الثقافي، ومحبي الروايات التي تربط الخيال بالتاريخ والفكر.
رواية لا تُقرأ مرة واحدة، بل تُعاود قراءتها كلما أردت أن تُفكك طبقات السيطرة الكامنة في الكلمات ذاتها.

مراجعة أدبية صحفية لرواية بابل لا مفر من العنف" بقلم ريبيكا إف. كوانج – ترجمة داليا لويس

معلومات النشر

  • العنوان: بابل: لا مفر من العنف
  • المؤلفة: ريبيكا إف. كوانج
  • المترجمة: داليا لويس
  • الناشر: مكتبة جرير
  • عدد الصفحات: أكثر من 600 صفحة
  • النوع: رواية خيالية/فكرية/تاريخية
  • تاريخ النشر: 2025 (باللغة العربية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى